تعافى أداء قطاع النفط الليبي في الأشهر الأخيرة مع إحراز الأطراف السياسية المنقسمة بين شرق وغرب البلاد تقدماً في العملية السياسية، حيث تم تشكيل حكومة وحدة وطنية في فبراير 2021، وسبق ذلك اتفاق بين القوى السياسية لاستئناف إنتاج وتصدير النفط بعد حصار لمنشآت وموانئ النفط دام أشهر طويلة.
وعلاوة على ما سبق، أتاح الاستقرار السياسي والأمني الفرصة لتوحيد المؤسسات النفطية المتنافسة في شرق وغرب ليبيا، كما عزز، نظرياً، من فرص توفير التمويلات اللازم لإعادة تأهيل قطاع النفط الليبي. ومع ذلك، قد يتأثر استقرار قطاع النفط الليبي بمتغيرات جديدة تتمثل في اندلاع الخلافات بين مؤسسة النفط الوطنية ووزارة النفط المشكلة حديثاً، بالإضافة إلى سحب البرلمان الليبي الثقة من حكومة عبدالحميد الدبيبة، والخلاف حول قانون الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
تعافي الإنتاج
شهد إنتاج النفط الليبي انتعاشاً قوياً منذ أواخر العام الماضي، بدعم من تحسن البيئة السياسية والأمنية في البلاد، وذلك يتضح على النحو التالي:
1- اتفاق استئناف الإنتاج: بدأ الانتعاش الحقيقي لإنتاج النفط منذ إعادة فتح حقول النفط وموانئ التصدير بموجب اتفاق تم بين الأطراف السياسية في شرق وغرب البلاد في سبتمبر 2020. وعاودت الشركات المحلية والأجنبية الإنتاج من الحقول بالجانب الأكبر من طاقتها الإنتاجية، مع إعادة تأهيل بعض الحقول واستخدام تقنيات الإنتاج المعزز.
2- دعم خطط التطوير: أفسح تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المجال أمام استقرار إدارة شؤون قطاع النفط الليبي، فقد قامت المؤسسة الوطنية للنفط بالعاصمة طرابلس، في سبتمبر الماضي، بتعيين ودمج الموظفين بالمؤسسة الموازية لها بالمنطقة الشرقية ضمن المؤسسة الرئيسية، فيما سمح استحداث وزارة جديدة للنفط بتعزيز مطالب الشركات المحلية بضخ استثمارات جديدة من أجل تطوير القطاع وزيادة الإنتاج في الأمد المتوسط.
3- انتعاش الإنتاج: بناء على المعطيات السابقة، استقر إنتاج ليبيا من النفط عند مستوى قدره 1.1 مليون برميل يومياً منذ بداية 2021، وذلك بعد أن بلغ أدنى مستوياته عند 390 ألف برميل يومياً في 2020، نتيجة تصارع الأطراف السياسية للسيطرة على الموارد النفطية. ولكن لايزال مستوى الإنتاج الحالي أقل مما حققه قطاع النفط الليبي في عام 2010، عندما بلغ الإنتاج نحو 1.7 مليون برميل يومياً.
وإذا ما وفرت الحكومة الليبية الأموال اللازمة لخطة تطوير القطاع النفطي، قد تستطيع المؤسسة الوطنية للنفط رفع معدل الإنتاج اليومي على مراحل إلى 2.1 مليون برميل بحلول نهاية عام 2025.
تهديدات جديدة
تبدو فرص استقرار قطاع النفط الليبي أوفر حظاً حالياً مع تحسن الأوضاع السياسية والأمنية مقارنة بالسنوات الماضية، وعلى الرغم من ذلك توجد ثمة عوامل مؤسسية وسياسية واجتماعية قد تعوق تطور الإنتاج في الأمد المتوسط، وهي موضحة على النحو التالي:
1- الصراع على الصلاحيات: دب الخلاف سريعاً بين وزارة النفط الليبية النفط المستحدثة مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ومؤسسة النفط الوطنية بشأن اختصاصات ومسؤوليات إدارة القطاع النفطي، وهو ما يعكس بين طياته أيضاً الخلافات الرئيسية بين الأطراف السياسية في ليبيا.
وكان وزير النفط الليبي، محمد عون، أصدر قراراً في أواخر أغسطس الماضي بإيقاف عمل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، بدعوى أنه قد خالف سياسة الوزارة حين سافر إلى الخارج في رحلة عمل من دون الحصول على موافقة رسمية من الوزارة بذلك، في مؤشر على حجم الخلافات بين الجانبين.
وتشير بعض الترجيحات إلى أن حقيقة الخلاف بين الطرفين تتعلق بملفات جوهرية في إدارة القطاع يأتي في صدارتها اعتراض وزير النفط على قيام المؤسسة الوطنية للنفط بإبرام صفقات مع الشركات الأجنبية لتطوير الحقول النفطية ومن دون الرجوع للوزارة، التي تنظر أنها صاحبة الحق الأساسي في إقراره الصفقات وتمريرها، ذلك إلى جانب اعتراضه على آلية تشكيل مجلس إدارة المؤسسة.
ولاحتواء الخلاف، عيّن وزير النفط الليبي في سبتمبر رئيساً جديداً للمؤسسة الوطنية للنفط، وهو قرار لم يصمد طويلاً، إذ أصدر رئيس الوزراء قراراً بالإبقاء على صنع الله في منصبه عقب أسابيع من الأزمة بين طرفيها، وهو قرار أيده أيضاً رئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية بمجلس النواب، عيسى العريبي. غير أن أزمة تنازع الاختصاصات بين المؤسستين ستظل مستمرة، ما لم يتم النظر مرة أخرى في إعادة صياغة القوانين واللوائح المنظمة لقطاع النفط لتحديد طبيعة الاختصاصات والمسؤوليات الخاصة بكل منهما.
2- احتجاجات عمالية وشعبية: قدر البنك المركزي الليبي أن خسائر البلاد جراء إغلاق المنشآت وموانئ التصدير النفطية في السنوات الماضية، بسبب الاحتجاجات الشعبية والعمالة، أو للأسباب الأمنية الأخرى بلغت نحو 100 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 193% من الناتج المحلي لعام 2019.
وتجددت في الأشهر الأخيرة مطالب عمال قطاع النفط من أجل تحسين أحوالهم المادية وأوضاعهم المعيشية. وقد طالبت النقابة العامة للنفط في فبراير الماضي بتنفيذ القرار رقم 642 لسنة 2013، الذي ينص على زيادة مرتبات العاملين في قطاع النفط وتنفيذ البرامج الطبية والمعيشية لهم. وهددت النقابة بالتحرك لتعطيل الإنتاج، إذا لم تستجيب الوزارة لتحقيق مطالبها. وإزاء ذلك، قامت وزارة النفط بزيادة أجور المستويات الإدارية العليا فقط، ولم تلب مطالب باقي المستويات الإدارية، على نحو قد ينذر بتكرار الاحتجاجات العمالة مجدداً، وبما يمثل خطراً حقيقياً على إنتاج وتصدير النفط الليبي.
كما تجددت مؤخراً الاعتصامات الشعبية داخل حقول النفط وموانئ التصدير. وقد قامت مجموعة من المتظاهرين الشباب في سبتمبر الماضي بالاعتصام داخل ميناءي السدرة ورأس لانوف مطالبين بتوفير وظائف لهم، وتسبب ذلك في تعطل عمليات نقل والتصدير لعدة أيام. وفي الشهر ذاته أيضاً، أغٌلق مينائي السدرة والزويتينة بعد تهديد من قبل جماعة تسمى "سكان منطقة الهلال النفطي" مطالبة بإقالة مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط.
3- توفير الاحتياجات التمويلية: أسفرت سنوات الصراع في ليبيا عن تعرض البنية التحتية للقطاع النفطي لأضرار واسعة، شملت انخفاض الضغط بالحقول وتآكل لخطوط الأنابيب ومنشآت التخزين، وغيرها، وهو ما يتطلب أموال ضخمة من أجل صيانتها وإعادة تأهيل الحقول. وقد طالبت وزارة النفط الليبية بتخصيص 7 مليارات دينار (1.5 مليار دولار) لهذا الغرض، فيما لم تخصص الحكومة سوى مبلغ 3 مليارات دينار لليبي (655 مليون دولار). وبغض النظر عن تلك الفجوة، فإن مجلس النواب الليبي لم يوافق على ميزانية العام الحالي إلى الآن، وهي محل خلاف بين الأطراف السياسية الليبية.
وإضافة لما سبق، تحتاج ليبيا لاستثمارات كبيرة من أجل رفع إنتاج البلاد النفطي إلى 2.1 مليون برميل يومياً. وسبق وأن قدرت مؤسسة النفط الوطنية أن ليبيا بحاجة إلى استثمارات تقدر بنحو 60 مليار دولار من أجل بلوغ مستوى الإنتاج السابقة، إلى جانب زيادة إنتاج الغاز الطبيعي.
تطورات سياسية سلبية
قرر مجلس النواب الليبي في 21 سبتمبر الماضي، سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وهي خطوة جددت الانقسامات السياسية في البلاد، فضلاً عن استمرار الخلاف حول قانون إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولذا فهي تحمل أيضاً انعكاسات مباشرة على إدارة القطاع النفطي، ونوضحها فيما يلي:
1- تعطيل الميزانية ومخصصات القطاع: يعني سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية التأخر في إقرار الميزانية العامة لعام 2021، وهو ما يعني أن مخصصات تمويل إصلاح البنية التحتية لقطاع النفط لن يتم الإفراج عنها خلال هذا العام. وسوف تبقى مؤجلة لحين تشكيل حكومة جديدة في حالة أجريت الانتخابات في موعدها الجديد في أواخر ديسمبر ويناير القادمين.
2- زعزعة الاستقرار الأمني: رفضت بعض القيادات السياسية، وتحديداً المجلس الأعلى للدولة، المحسوب على الإخوان المسلمين، إصدار البرلمان الليبي قانوني إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي تفتح الباب أمام إجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر القادم، والبرلمانية في يناير 2022، وهو الأمر الذي قد ينذر بتجدد القتال بين شرق وغرب ليبيا، أو محاولة قوى غرب ليبيا تعطيل مسار الانتخابات.
3- تعطيل بناء شراكات خارجية: يضع قرار سحب الثقة صعوبات أمام حكومة الوحدة الوطنية في إبرام أي اتفاقيات أو عقود مستقبلية مع الدول أو الشركات الأجنبية، حيث لن يكون بمقدورها إبرامها مع عدم وجود تأييد برلماني لتلك الصفقات.
وفي الختام، يمكن القول إن قطاع النفط، شأنه شأن الأنشطة الاقتصادية كافة، يشهد في اللحظة الراهنة درجة من عدم اليقين حول سلامة العملية السياسية في ضوء المتغيرات الجديدة، بما في ذلك سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، غير أنها لن تؤدي إلى توقف الإنتاج الليبي من النفط، كما كان عليه الوضع في السابق، وذلك في ظل الموقف الإقليمي والدولي الداعم لاستقرار المشهد السياسي في لبيبا، والحيلولة دون تفاقم الصراع الأمني والسياسي مجدداً في البلاد. ورغم ذلك، من المرجح أن تقوض تلك التطورات بالتأكيد من جهود الحكومة الليبية لرفع ودعم الإنتاج في الأمد المتوسط.